• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العراق: سياسة خارجية إيجابية تقتضي الاستمرارية والحذر

د. خالد عليوي

العراق: سياسة خارجية إيجابية تقتضي الاستمرارية والحذر

في القمة الثلاثين لجامعة الدول العربية التي عُقدت في تونس يوم الأحد الموافق 31 آذار - مارس 2019، قال الرئيس العراقي برهم صالح: «إنّ المبدأ الأساس في علاقات العراق الدولية، وخصوصاً علاقاته مع جواره الإسلامي وعمقه وامتداده العربي، هو مبدأ العمل المشترك مع الجميع على أساس مصالح الشعوب ومصالح البلدان، والعراق يطمح إلى دور واعد ليكون نقطة لقاء لا نزاع، لن نكون طرفاً في أي محور، لكن سنكون في قيادة أي جهد يعمل لترسيخ السلام والتنمية والتفكير بمستقبل متقدّم وعادل للجميع».

وإلى نفس المضمون ذهب رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي أثناء لقاءه بالرئيس الإيراني حسن روحاني يوم السبت الموافق 6 نيسان - إبريل الجاري عندما قال: «نريد للعلاقات المتطوّرة والمتقدّمة بين العراق وإيران أن تكون قدوة لعلاقات متطوّرة بين دول المنطقة. والعراق، يريد توسيع علاقاته مع الكويت والسعودية وتركيا وسوريا ومصر وقطر وغيرها... نعمل بجد لإرساء أُسس السلام والعلاقات الصحيحة، وأنّ الخلافات تُحل دائماً بالوسائل السياسية لا المسلحة». ثمّ كرر هذا التوجه عند لقاءه بالمرشد الأعلى الإيراني السيِّد علي خامنئي في اليوم نفسه بقوله: «نهج الحكومة العراقية قائم على تقوية المشتركات وتعزيز فرص التعاون مع جميع دول الجوار، وعدم الدخول بمحور على حساب أيّة دولة ورفض سياسة المحاور».

هذا التوجه الإقليمي والدولي في السياسة الخارجية، يدلّ على النُّضج والإدراك الصحيح للقيمة الجيو - إستراتيجية للعراق في الشرق الأوسط والعالم بعد أكثر من ثلاثة عقود من التخبط وغياب بوصلة الحكمة لدى صانع القرار العراقي، فالعراق لديه أرث حضاري وثقافي هائل يؤهله لامتلاك قوّة ناعمة كبيرة يمكن توظيفها بشكل إيجابي للتأثير على خيارات جيرانه لمصلحته ومصلحة المنطقة، ناهيك عمّا يمتلكه من موقع جغرافي فريد، وثروات ضخمة، وشعب حيوي متحفز... وهي كلّها قدرات كامنة يمكن أن تؤسّس لتنمية شاملة تقود البلد لتبوء مكان القيادة متعدّدة الأبعاد في الشرق الأوسط.

ولكن كانت، ولا زالت، مشكلة العراق هي افتقاره للقيادة السياسية المدركة لحجمه ودوره، ولديها الرؤية الإستراتيجية لاستثمار كلّ إمكاناته لبناء دولة حديثة بمعنى الكلمة تقود منطقتها نحو التطوّر والنمو الحضاري.

إنّ السياسة الخارجية الجديدة لرئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء في العراق اليوم تشكل امتداداً للسياسة التي أرستها الحكومة السابقة بقيادة حيدر العبادي، ولكن بفاعلية أكثر عمقاً واتّساعاً، ممّا يدل على مؤشرات إيجابية جدّاً لبدء مرحلة التعافي للدولة العراقية، فكانت ثمارها كبيرة وبارزة، على الرغم من قصر المدّة، انعكست بعودة بغداد لتصبح قبلة للتلاقي والحوار الإقليمي، من خلال زيارات المسؤولين وصنّاع القرار الإقليمي والدولي. فضلاً على تسابق الجميع على عقد اتفاقات وتفاهمات تحقّق المصالح المتبادلة، بل وربّما تكون بغداد - أيضاً - طاولة مفضّلة للحوار ومعالجة الأزمات الإقليمية والدولية التي تستثمر العراق كجسر دبلوماسي لا غنى عنه.

وهذه السياسة الخارجية العراقية، لتنجح في تحقيق أهدافها بحاجة إلى الاستمرار في هذا المسار المفيد للجميع، من خلال الحرص على الحياد المتوازن، والوضوح في الثوابت الوطنية الخارجية، وامتلاك المهارة التفاوضية، ومقبولية الأشخاص الذين يمثّلون العراق في وزارة الخارجية، والوفود الرسمية، فضلاً على أهميّة لعب السفارات والقنصليات العراقية لدور نشط يتناسب مع توجهات بلدهم الجديدة في التأثير على سياسة الدول التي تعمل فيها.

كما يتطلب نجاح السياسة الخارجية العراقية امتلاك الفاعلية والقدرة على تجاوز العقبات المتوارثة والطارئة التي تعترضها، سواء كانت مقصودة أم ناتجة عن طبيعة التفاعلات الدولية، فليست الطُّرق أمام عودة العراق لأخذ مكانه الإقليمي والدولي معبّدة تماماً، بل بعضها وعرة ومليئة بالأشواك وتحتاج إلى جهد وصبر وحكمة للتعامل معها، وأبرزها: الصراع الإيراني - السعودي، والصراع الأمريكي - الإيراني، والدور الإسرائيلي الشرق أوسطي، والصراعات العربية - العربية، وما ينجم عن كلّ ذلك من دعم ظاهر وخفي للإرهاب والحروب بالوكالة الناجمة، هذا على المستوى الخارجي.

 أمّا على المستوى الداخلي، فستبرز عقبات أُخرى تقيّد وتعيق وتضعف السياسة الخارجية للعراق، وتتمثّل بــ: غياب الإستراتيجية الشاملة للتنمية الاقتصادية، وصراع الكتل السياسية، والفساد الإداري والمالي، وتخلف وترهل مؤسّسات الدولة، وعدم تماسك ووحدة القيادة والسيطرة في الأجهزة الأمنية والعسكرية، والوجود المسلح خارج الدولة، ومشكلة العلاقة بين بغداد وإقليم كردستان، وضعف سلطة إنفاذ القانون، والبطالة المستفحلة، وتدهور البُّنى التحتية، وضعف الثقة بين الحكومة والشعب... وغيرها، وهي بمجملها تحدّيات حقيقية لا يمكن تجاهلها، أو تصوّر عدم تأثيرها على كفاءة وفاعلية العراق في سياسته الخارجية، فكما معلوم أنّ قوّة السياسية الخارجية لأي دولة هي انعكاس لقوّة ومتانة وتماسك البيئة الداخلية، من جانب، وواقع العلاقات وتوازن القوى والفواعل السائدة في بيئتها الخارجية، من جانب آخر.

حقّاً إنّ العقبات التي تعترض سبيل السياسية الخارجية الجديدة للعراق كبيرة، ولكن تجاوزها ليس أمراً مستحيلاً، لاسيّما أنّ حكومات المنطقة جميعها تقريباً تمر بمرحلة جديدة، تحكمها رغبتها بالحصول على فسحة من الهدوء والتقاط الأنفاس، بعد أن أنهكتها المؤامرات ومكافحة الإرهاب والحروب بالوكالة والابتزاز الدولي والنزاعات الداخلية وصفقات التسلح الضخمة... ممّا يجعل الظرف الحاضر للعراق، بعد أن خرج متماسكاً على المستوى الجغرافي والشعبي على الأقل، ظرفاً مناسباً للعب دور إقليمي ودولي فاعل في تقريب وجهات النظر بين دول المنطقة، وحماية مصالحه العليا، وتثبيت وإدامة حالة السلام والاستقرار التي أعقبت الانتصار على التنظيمات الإرهابية.

إنّه الزمن الذي يحتاج فيه العراق إلى: الحكمة لا التهور والاستعجال، ورجال دولة أفذاذ لا طلاب سلطة وهواة سياسة قصيري النظر، وعمل بمنطق الدولة لا منطق الطائفة والدِّين والقومية... وعليه وهو يخطو بسياسة الانفتاح الخارجي على جميع الأطراف أن يختار بحرّية تحالفاته الإقليمية والدولية وبما يحقّق مصالحه العليا، دون خضوع لإملاءات الآخرين، وأن تكون لديه إرادة سياسية صلبة وموحدة ومستقلة وواعية تستثمر هذا الظرف بنجاح، إذ بدون هذه الإرادة ستكون مرحلة الانفتاح الخارجي اليوم مجرد استراحة محارب وجس نبض من جميع الأطراف لتبدأ بعدها مرحلة انتكاس جديدة تكون عواقبها وخيمة للجميع، لكن ضحيتها الأكبر ستكون مصلحة العراق وشعبه.

ارسال التعليق

Top